بعد أكثر من نصف قرن على اختراع الذكاء الاصطناعي، يمكن لثلاثة تطورات أساسية أن تبشر بظهور ذكاء الآلات. فمن شأن الأفكار الجديدة الآتية من العلوم العصبية والعلوم الإدراكية أن توجه تصميم المعدات الصلبة والبرمجيات الجديدة. ويتيح تطور شبكة الإنترنت فرصة الوصول إلى مخزون كبير من البيانات العالمية. بل ربما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يطور من نفسه.
مستقبل جديد
الروبوت بيج دوج يستخدم الذكاء الاصطناعي
للتجول في الأرض الوعرة؛ فقط لا تلق إليه عصا!
الآلات الذكية
إذا أردنا بناء كمبيوتر يعمل بنفس مستوى الذكاء البشري، لمَ لا ننسخ المخ فحسب؟ فعلى أي حال، البشر هم أفضل نموذج للذكاء. في العِقد الماضي، قدمت العلوم العصبية الكثير من الرؤى الجديدة حول كيفية معالجتنا للمعلومات وتخزينها.
العقل البشري شبكة من ١٠٠ تريليون تشابك عصبي تصل بين ١٠٠ مليار خلية عصبية، معظمها يغير حالته من ١٠ إلى ١٠٠ مرة في الثانية. وتصميم مخنا يجعلنا ماهرين في مهام مثل إدراك الأجسام داخل صورة.
على الجانب الآخر، يملك جهاز الكمبيوتر الفائق نحو ١٠٠ تريليون بايت من الذاكرة ودوائر الترانزستور الخاصة بها يمكنها إجراء العمليات أسرع بمائة مليون مرة من المخ. وهذه البنية تجعل الكمبيوتر أفضل في العمليات السريعة الدقيقة المحددة للغاية.
لكن قد تستفيد بعض العمليات من عملية المعالجة الشبيهة بتلك التي تجري في المخ، حتى ولو استتبع هذا التخلي عن بعض المميزات. على سبيل المثال، المهام غير الدقيقة على غرار التعرف على الوجوه لا تتطلب بالضرورة دوائر عالية الدقة تتبع فيها عملية المعالجة مسارًا دقيقًا.
يختبر بعض الباحثين بنية هندسية تشبه بنية المخ من أجل محاكاة متطلبات المخ منخفضة الطاقة. إن المخ يقوم بكل عملياته الحسابية باستخدام ٢٠ وات فقط، وهو يوازي ما يستخدمه مصباح باهت الإضاءة للغاية. أما الكمبيوتر الفائق القادر على إجراء عمليات حسابية مماثلة فيتطلب ٢٠٠ ألف وات. تهتم مجموعات أخرى من الباحثين بدراسة قدرة المخ على معالجة البيانات وتخزينها في نفس المكان والتعلم من هذه القدرة (انظر الرسم التوضيحي).
ولهذه الأسباب، توجد مشروعات حالية لبناء دوائر حاسوبية جديدة مستلهمة من العقل؛ متوازية أكثر من كونها متسلسلة، تناظرية أكثر من كونها رقمية، أبطأ وتستهلك طاقة أقل كثيرًا.
أجهزة كمبيوتر تستخدم الحدس
يفشل البشر باستمرار في الوصول إلى مستوى مثالي من العقلانية. فنحن نقع في أخطاء شائعة في عمليات اتخاذ القرار ونتأثر بسهولة بسبب التفاصيل غير ذات الصلة بالموضوع. وعندما نسارع باتخاذ قرار دون التفكير مليًّا في كل جوانبه، نطلق على ذلك الثقة في حدسنا. كنا نظن أن غياب مثل هذه السمات البشرية غير العقلانية يجعل أجهزة الكمبيوتر أفضل، لكن أحدث أبحاث العلوم المعرفية تخبرنا بعكس ذلك.
يبدو أن البشر لديهم عمليتا اتخاذ قرار متكاملتان، إحداهما بطيئة ومتأنية وعقلية في المقام الأول، والثانية أسرع ومندفعة وقادرة على مضاهاة الموقف الحالي مع خبرة سابقة، مما يجعلنا قادرين على الوصول إلى قرار سريع. ويبدو أن العملية الثانية هي السر وراء الفعالية الشديدة للذكاء البشري.
هل ينبغي أن يتضمن الذكاء الاصطناعي عنصر الحدس؟ بالفعل، الكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة يتكون من جزأين: جزء يتفاعل على الفور مع الموقف، وجزء يفكر بتأنٍّ أكبر. يتضمن تصميم بعض الروبوتات بنية هندسية «تصنيفية»، تكون فيها أدنى طبقات النظام تفاعلية على نحو صرف، والمستويات الأعلى تعمل على كبح ردود الأفعال وانتهاج سلوك موجه أكثر نحو الهدف. على سبيل المثال، أثبت هذا المنهج فائدته في جعل الروبوت ذي الأرجل الأربع يتغلب على وعورة الأرض.
كانت هناك جهود مشابهة لدفع أنظمة الذكاء الاصطناعي نحو اتخاذ قرارات أفضل عن طريق منحها مشاعر. على سبيل المثال، إذا حاول روبوت مستقل القيام بنفس العمل عدة مرات وفشل بشكل متكرر، قد تفيد دائرة «الإحباط» في حثه على استكشاف طريقة جديدة.
إن صنع آلات تحاكي المشاعر مهمة معقدة. ويرى مارفن مينسكي — أحد مخترعي أنظمة الذكاء الاصطناعي — أن المشاعر لا تظهر نتيجة فعل وحيد تقوم به الأمخاخ، وإنما تنتج عن تفاعل يتضمن العديد من أجزاء المخ، وبين الجسد والمخ. إن المشاعر تحفزنا على اختيار قرارات معينة بدلًا من غيرها، والتفكير في أجزاء برنامج حاسوبي كما لو كانت محفزة بواسطة المشاعر ربما يساعد في تمهيد الطريق أمام ذكاء اصطناعي أكثر شبهًا بالذكاء البشري.
التطور
معظم أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة معقدة للغاية لدرجة يستحيل معها برمجتها يدويًّا. وأحد بدائل ذلك هو السماح للأنظمة بتطوير نفسها. وفي هذا المنحى، تجرب عملية متكررة عدة أشكال مختلفة من البرنامج في بيئة افتراضية، وتختار الأشكال الأكثر نجاحًا وتتخذ أفضل القرارات باستخدام أسلوب المحاولة والخطأ.
أولًا: يبني المصممون محاكاة لبيئة البرنامج؛ قد تكون بيئة صحراوية أو حوضًا. ثم يضعون بضعة تصميمات مختلفة من برنامج الذكاء الاصطناعي داخل المحاكاة، ويقيسون جودة قراراتها؛ بعبارة أخرى، مستوى تأقلمها. ربما يكتشف أحد أشكال برنامج الذكاء الاصطناعي السلوك المناسب، وربما يكون شكل آخر بطيئًا. يجري التخلي عن التصميمات غير الملائمة، وإجراء تعديلات على التصميمات الملائمة، ثم تتكرر العملية.
يمكن تشبيه التعديلات التي تغير من بعض معالم التصميم الواحد بالطفرات العشوائية التي تحدث في الانتخاب الطبيعي. والتعديلات التي تدمج تصميمين مختلفين من أجل إنتاج تصميم «ناتج» ثالث لا تختلف عن التكاثر الجنسي. ولهذا السبب يشار إلى هذه العملية باسم «الخوارزميات الوراثية».
الطموحات المبكرة
ما الذكاء الاصطناعي؟
لماذا يصعب برمجة آلة للقيام بهذه الأشياء؟ لأن المبرمج بطبيعة الحال سيكون مدركًا للمهمة المطلوب أداؤها من الكمبيوتر منذ البداية. إن سر الذكاء الاصطناعي هو جعل الكمبيوتر يقوم بالأمر الصائب مع أنك لا تعرف ما سيكون عليه هذا الأمر.
في العالم الواقعي، يتخذ عدم اليقين أشكالًا عدة. يمكن مثلًا أن يكون منافسًا يحاول منعك من الوصول إلى هدفك. ويمكن ألا تظهر تداعيات أحد القرارات إلا لاحقًا — ربما تنحرف بسيارتك من أجل تفادي تصادم دون أن تعرف إذا كان القيام بذلك آمنًا أم لا — أو أن تتاح معلومات جديدة خلال مهمة ما. يجب أن يكون البرنامج الذكي قادرًا على التعامل مع كل هذه الأمور وأكثر منها.
لمضاهاة الذكاء البشري، لا يجب أن يحاكي النظام المهمة فحسب، ولكن يجب أيضًا أن يحاكي العالم الذي تُباشَر فيه المهمة. يجب أن يستشعر بيئته ثم يتصرف وفقًا لها، بحيث يعدل ويغير أفعاله وفقًا لها. وسنصف الآلة بأنها ذكية فقط عندما تستطيع اتخاذ القرار الصحيح في الظروف الملتبسة.
الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية
قد لا يكون الأمر واضحًا لك، لكنك تتعامل مع برامج الذكاء الاصطناعي كل يوم. فهذه البرامج تنظم مكالماتك الهاتفية، وتقبل تحويلاتك المصرفية باستخدام بطاقة الائتمان، وتمنع الاحتيال، وتتاجر في أسهم صندوقك الاستثماري تلقائيًّا. والأكثر من ذلك أنها تساعد طبيبك في تفسير نتائج اختباراتك الطبية. لكنك لن تظن أن هذه البرامج تمتلك ذكاءً يشبه ذكاء البشر.
السيارة «ستانلي» — سيارة جامعة ستانفورد ذات التحكم الذاتي — فازت في أول مسابقة للسيارات بدون سائق.
تطبيقات تصيد الرسائل المزعجة
ما يزيد عن ٩٠ بالمائة من رسائل البريد الإلكتروني المرسلة هذه الأيام رسائل مزعجة. وإذا ظهر ذلك في محتوى صندوق الوارد في بريدك الإلكتروني، فإن البريد الإلكتروني سيصبح غير صالح للاستخدام. إن حمايتك الرئيسية ضد بائعي حبوب المعجزات ومخططات العمل من المنزل تأتيك من خلال مرشحات الرسائل المزعجة التي تعتمد على”تعلم الآلات«. وكما يشير المصطلح، يتعلم مرشح الرسائل المزعجة من بيئته ومن طريقة معاملة الناس لرسائلهم الإلكترونية.
يقدم مستخدمو البريد الإلكتروني المعيار الأمثل عن طريق تحديد وتصنيف الرسائل في صندوق الوارد بأنها «رسائل مزعجة» أو «رسائل غير مزعجة». ويستخدم البرنامج هذه المعلومات من أجل تحليل كل رسالة إلى مجموعة من السمات. يمكن للسمة أن تكون كلمة، أو كلمتين، أو عبارة، أو وقت إرسال الرسالة، أو الكمبيوتر الذي أرسلها. وهذه السمات يمكنها بعد ذلك مساعدة البرنامج في تحديد هل الرسالة الواردة مزعجة أم لا. على سبيل المثال افترض أنها تحتوي على عبارتي «أرخص الأسعار» و«تغليف محكم». سوف يرجع برنامج الذكاء الاصطناعي إلى الإحصاءات العالمية التي تخبره أن هاتين العبارتين تظهران في ٨ بالمائة و٣ بالمائة من الرسائل المزعجة على الترتيب، وتظهر بنسبة ٠٫١ بالمائة و٠٫٣ بالمائة من الرسائل الحقيقية. وبعد القيام ببعض الافتراضات حول السمات المنفردة — وتطبيق صيغة تسمى قاعدة بايز، التي تقيّم احتمالية وقوع حدث ما بناءً على ملاحظات الأحداث المرتبطة به — يصل إلى نتيجة أنه من المحتمل بنسبة ٩٩٫٩ بالمائة أن هذه الرسالة رسالة مزعجة.
لكن أهم ما تقوم به مرشحات الرسائل المزعجة هو تحديث قوالبها بمرور الوقت اعتمادًا على الخبرة. ففي كل مرة يصحح المستخدم خطأ، ربما عن طريق إنقاذ رسالة حقيقية من مجلد البريد غير المرغوب فيه، يحدث البرنامج نفسه ليعمل وفق الواقع الجديد. وهكذا لا يحتاج المبرمجون أن يحددوا التعليمات خطوة بخطوة من أجل تحديد الرسالة المزعجة، إنما يحتاجون فقط إلى بناء نظام تعلم عام وتعريضه لنماذج من الرسائل المزعجة والرسائل الحقيقية، ويقوم البرنامج ببقية العمل.
الذكاء الاصطناعي على الطريق
إذا كنت في طريقك نحو لاس فيجاس وتخطيت سيارة تحمل لوحات حمراء اللون وعليها علامة اللانهاية، فاعلم أن هذه السيارة تقود نفسها. ففي أوائل هذا العام، أصدرت ولاية نيفادا أول رخصة لسيارة ذاتية التحكم.
هل ستنتشر المركبات ذاتية القيادة في بقية العالم؟ حتى الآن، كانت القيادة مهمة متروكة للبشر خاصة أنها تتضمن الكثير من المتغيرات: هل السيارة القادمة تسير بسرعة ٦٠ أم ٧٠ كيلومترًا في الساعة؟ هل يمكن أن توجد سيارة أخرى خارج نطاق الرؤية عند المنعطف؟ إذا حاولت أن أتخطى السيارة التي أمامي، فهل سيزيد سائقها من سرعته ؟ وأكثر من ذلك بكثير.
أما برامج الذكاء الاصطناعي فالقيادة الفعلية كانت الجزء السهل، على الأقل على الطرق السريعة. ففي عام ١٩٩٤، قادت سيارتا مرسيدس بنز ذاتيتا القيادة ومجهزتان بكاميرات وبرامج ذكاء اصطناعي مسافة ١٠٠٠ كيلومتر على الطرق السريعة حول باريس.
مع ذلك، معظم القيادة تتم داخل المدن، وهنا يصير الأمر صعبًا على برامج الذكاء الاصطناعي، التي حتى وقت قريب لم تكن قادرة على التوافق مع قواعد المرور غير المكتوبة داخل المدينة. على سبيل المثال، عندما برمج باحثو جوجل سيارة ذاتية القيادة على أن تلتزم بالتوقف عند تقاطع الطرق كما هو محدد في دليل السائق، وجدوا أنها لن تحصل أبدًا على فرصة للتحرك للأمام، لذا غيروا سلوك السيارة بأن جعلوها تتحرك للأمام مسافة بوصة بعد أن تنتظر لبرهة من الوقت، كي تشير إلى نيتها في التحرك للأمام.
مصدر آخر للشك في قدرة السيارة ذاتية القيادة يتمثل في تحديد السيارة لموضعها. فلا يمكن للسيارة أن تعتمد على نظام تحديد المواقع العالمي فحسب؛ إذ تتفاوت دقته بمقدار عدة أمتار، لذا يعوض برنامج الذكاء الاصطناعي هذا بالحصول على تغذية راجعة متزامنة من الكاميرات والرادار وأشعة الليزر المُحدِّدة للمدى، ومقارنتها بالبيانات الواردة من نظام تحديد المواقع العالمي. وتوفر مقارنة هذه المواضع غير الدقيقة قياسًا عالي الدقة.
لكن الذكاء الاصطناعي ليس مقصورًا على القيادة وحسب. ففي الطرازات الحديثة للسيارات، يعدل برنامج الذكاء الاصطناعي تلقائيًّا تدفق الوقود لجعله أكثر كفاءة والمكابح لجعلها أكثر فعالية.
إن أحدث السيارات ذاتية القيادة تجمع الكثير من فروع الذكاء الاصطناعي، وقد بدأ الناس في قبول هذه الفكرة. وبتصريح خاص، سار أسطول من سيارات جوجل ذاتية القيادة بالفعل مئات الآلاف من الكيلومترات على طرق كاليفورنيا السريعة وشوارع المدينة المزدحمة دون أي تدخل من البشر. وتجيز ولايتا فلوريدا وكاليفورنيا الآن السيارات ذاتية القيادة، وربما يتبعهما في ذلك ولايات أخرى.
أنا شخصيًّا أعتقد أن آخر ابتكار سنحتاجه هو الشراكة بين البشر والآلة. فعلى غرار الانتقال من الكمبيوتر المركزي في سبعينيات القرن العشرين إلى الكمبيوترات الشخصية اليوم، انتقلت معظم أنظمة الذكاء الاصطناعي من كونها كيانات مستقلة إلى كونها أدوات تُستخدم في الشراكة بين البشر والآلة.
سوف تتحسن أدواتنا بدرجة غير مسبوقة عندما تشتمل على المزيد من الذكاء. وسوف نصبح نحن أيضًا أفضل، وقادرين على الوصول إلى كم أكبر من المعلومات والتعليم. وربما يقل ما نسمعه حول الذكاء الاصطناعي ويزداد ما نسمعه حول «تعزيز الذكاء». في الأفلام، لا يزال علينا أن نقلق من سيطرة الآلات على البشر، لكن في الحياة الواقعية، سيتقدم البشر وأدواتهم المتطورة جنبًا إلى جنب.




.jpg)

